هل تجزيء القيمة في زكاة الفطر (1)
من أجاز إخراج القيمة في الزكاة:
قال ابن قدامة -رحمه لله- وقال الثوري وأبو حنيفة: يجوز. وقد روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن وقد روى عن أحمد مثل قولهم فيما عدا الفترة اهـ (2). قال النووي وهو الظاهر من مذهب البخاري في صحيحه (3) وقال ابن رشيد: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكنه قاده إلى ذلك الدليل (4).
وقد روى سعيد بن منصور في سننه عن عطاء قال: كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم (5).
وروى ابن أبي شيبة عن عون قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقرأ إلى عدي بالبصرة "يؤخذ من أهل الديوان من أعطياتهم من كل إنسان نصف درهم (6).
وعن الحسن قال: لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر (7).
وعن أبي إسحاق قال: أدركتهم وهم يؤدو في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام (.
__________
(1) هذا البحث بأكمله من رسالة "هل تجزيء القيمة في الزكاة؟" لحبيبنا وشيخنا محمد إسماعيل -حفظه الله-.
(2) المغني (3/65).
(3) المجموع (5/429).
(4) فتح الباري (3/212).
(5) المغني (3/65).
(6) (7) ( مصنف ابن أبي شيبه (4/37-38).
وعن عطاء أنه كان يعطي في صدقة الفطر ورقا (دراهم فضيه) (1).
* قال ا-لنووي -في المجموع (6/112) : "قال إسحاق وأ-بو ثور: لا تجزيء إلا عند الضرورة".
المانعون وأدلتهم
من هم المانعون؟.
قال الخرقي -رحمه لله-: ومن أعطى القيمة لم تجزئه (2).
قال ابن قدامه -رحمه لله- قال أبو داد: قيل لأحمد -وأنا أسمع-: أعطي دراهم -يعني في صدقة الفطر- قال: أَخاف ألا يجزئه؛ خلاف سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال أبو طالب -رضي الله عنهما- قال لي أحمد: لا يُعطي قيمته.
قيل له: قوم يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ بالقيمة قال: يدعون قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقولون قال فلان.
قال ابن عمر: فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال الله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وقال: قوم يردون السنن يقولون. قال فلان وقال فلان وظاهر مذهبه أنه لا يجزئه إخراج القيمة في شيء من الذكوات، وبه قال مالك والشافعي (3).
أدلة المانعين وهم جمهور أهل العلم
(1) زكاة الفطر قربة وعبادة مفروضة من جنس متعين فلا يجزيء إخراجها من غير الجنس المعين، كما لا يجزي إخراجها في غير الوقت المعين.
قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني -رحمه لله-: "الشائع المعتمد في الدليل لأصحابنا: أن الزكاة قربة لله تعالى، وكل ما كان كذلك فسبيله أن يتبع فيه أمر الله تعالى، ولو قال إنسان لوكيله: اشتر ثوبًا، وعلم الوكيل أن غرضه التجارة، وجد سلعة هي أنفع لموكله، لم يكن له مخالفته وإن رآه أنفع، فما يجب لله تعالى بأمره أولى بالاتباع.
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (4/37-38).
(2) المغني لابن قدامه (3/65).
(3) المغني لابن قدامه (3/65).
كما لا يجوز في الصلاة إقامة السجود على الخد والذقن مقام السجود على الجبهة والأنف والتعليل فيه بمعنى الخضوع؛ لأن ذلك مخالفة للنص وخروج على معنى التعبد، كذلك لا يجوز في الزكاة إخراج قيمة الشاة أو البعير أو الحب أو الثمر المنصوص على وجوبه؛ لأن ذلك خروج على النص وعلى معنى التعبد، والزكاة أخت الصلاة" (1) اهـ.
وبيان ذلك أن الله سبحانه أمر بإيتاء الزكاة في كتابه أمراً مجملاً بمثل قوله تعالى: (وآتوا الزكاة) وجاءت السنة ففصلت ما أجمله القرآن وبينت المقادير المطلوبة بمثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "في كل أربعين شاة شاة" وقوله: "في كل خمسة من الإبل شاة" إلخ، فصار كأن الله تعالى قال: وآتوا الزكاة من كل أربعين شاة شاة فتكون الزكاة حقًا للفقير بهذا النص، فلا يجوز الاشتغال بالتعليل لإبطال حقه من العين.
(2) إخراج القيمة خلاف ما أمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفرضه، وقد روى أبو داود وابن ماجة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر" (2). وهو نص يجب الوقوف عنده، فلا يجوز تجاوزه إلى أخد القيمة لأن في هذه الحال سيأخذ من الحب شيئًا غير الحب، ومن الغنم شيئًا غير الشاة ... إلخ، وهو خلاف ما قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله تعالى (3) -:"ولنا قول ابن عمر: فرض رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر صاعًا من تمر، وصاعًا من شعير، فإذا عدل عن ذلك فقد ترك للفروض، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "في أربعين شاة شاةٌ ، وفي مائتي درهم خمسة دراهم وهو وارد بيانًا لمجمل قوله تعالى: وآتوا الزكاة فتكون الشاة المذكورة هي الزكاة المأمور بها، والأمر يقتضي الوجوب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض الصدقة على هذا الوجه، وأمر بها أن تؤدى، ففي كتاب أبي بكر الذي كتبه في الصدقات أنه قال: "هذه الصدقة التي فرضها رسول الله ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر بها أن تؤدى" ا. هـ.
__________
(1) المغني (-5/430).
(2) صححه الحاكم على شرطهما إن صح سماع عطاء عن معاذ، ولم يسمع منه لانه ولد بعد موته أو في سنة موته أو بعد موته بسنة، وقال البزار: "لا نعلم أن عطاء سمع من معاذ".
انظر "فيض القدير" للمناوي (3/433) ، وكذا ضعيف الجامع الصغير رقم (2835).
قال المناوي -رحمه لله-: (والمراد أن الزكاة من جنس المأخوذ منه، هذا هو الأصل، وقد يعدل عنه لموجب) اهـ من "فيض القدير" (3/433).
(3) المغني 3/65- 66.
وفي رواية: "إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين التي أمر الله بها ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها".. الحديث قال الحافظ: "على وجهها" أي: "على الكيفية المبينة في هذا الحديث" ا. هـ.
أما حديث معاذ -رضي الله عنه- وفيه: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم" ... الحديث. فقد قال ابن قدامة -رحمه لله- "ولأن مخرج القيمة قد عدل عن المنصوص فلم يجزئه كما لو أخرج الرديء مكان الجيد" (1). ا. هـ.
وقال الشوكاني -رحمه لله-: وقد استدل بهذا الحديث من قال إنها تجب الزكاة من العين، لا يعدل عنها إلى القيمة إلا عند عدمها، وعدم الجنس، وقال أيضاً: "فالحق أن الزكاة واجبة من العين لا يعدل عنها إلى القيمة إلا لعذر" (2).
وقال الشوكاني أيضاً في السيل الجرار: "أقول: الثابت في أيام النبوة أن الزكاة كانت تؤخذ من عين المال الذي تجب فيه، وذلك معلوم لا شك فيه، وفي أقواله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يرشد إلى ذلك، ويدل عليه كقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "خذ الحب من الحب" ا. هـ.
(3) ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عينها من أجناس مختلفة وأقيامها مختلفة غالبا، فلو كانت القيمة معتبرة لكان الواجب صاعًا من جنس وما يقابل قيمته من الأجناس الأخرى، وقال النووي -رحمه لله-: "ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشياء قيمها مختلفة، وأوجب في كل نوع منها صاعًا فدل على أن المعتبر صاع ولا نظر إلى قيمته" (3) ا. هـ.
(4) ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي وهو "أن التكليف والابتداء لإخراج الزكاة ليس بنقص الأموال فقط -كما فهم أبو حنيفة- فإن هذا ذهول عن التوفية لحق التكلف في تعيين الناقص، وهو يوازي التكليف في قدر ناقص، فإن المالك يريد أن يبقي ملكه بحاله، ويخرج من غيره عنه، فإذا مالت نفسه إلى ذلك وعلقت به كان التكليف قطع تلك العلاقة التي هي -بين القلب وبين ذلك الجزء من المال، فوجب إخراج ذلك الجزء بعينه" (4) ا. هـ.
__________
(1) المغني 3/66.
(2) نيل الأوطار 4/171.
(3) "شرح النووي" 7/60.
(2) "أحكام القرآن" 2/945.
(5) أن الزكاة وجبت لدفع حاجة الفقير وشكرًا لله على نعمة المال، والحاجات متنوعة فينبغي أن يتنوع الواجب ليصل إلى الفقير من كل نوع ما تدفع به حاجته ويحصل شكر النعمة بالمواساة من جنس ما أنعم الله عليه به" (1).
(6) قال الشيخ محمد بن صالح آل عثيمين: "ولأن إخراج القيمة مخالف لعمل الصحابة -رضي الله عنهم- حيث كانوا يخرجونها صاعًا من طعام وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "عليكلم بستتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" ا. هـ.
وقد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كنا نعطيها في زمان النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب". قال الحافظ: "كنا نعطيها" أي: زكاة الفطر (في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) هذا حكمه: الرفع؛ لإضافته إلى زمنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ففيه إشعار باطلاعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، وتقريره له ولا سيما في هذه الصورة التي كانت توضع عنده، وتجمع بأمره، وهو الآمر بقبضها وتفرقتها (2) ا. هـ.
وقال الباجي في "المنتقى" عند هذا الحديث: قوله: "كنا نخرج زكاة الفطر" يلحق عند أكثر أهل العلم بالمسند، وهو مذهب مالك والشافعي؛ لأن الصحابي إذا أخبر بفعل من الشرع، وأضاف ذلك إلى زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالظاهر أْنه أضافه إلى زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن هذا الحديث رواه داود بن قيس عن عياض ابن عبد الله فقال: "وكنا نخرج إذ كان فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر"، فذكره فصرح برفعه، فإذا كان الأمر المضاف مما يظهر ويتبين ولا يخفى مثله على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ولم ينكره، وأقر عليه فإنه حجة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقر على المنكر، وإخراج زكاة الفطر يكثر المخرجون لها والآخذون ويتكرر ذلك حتى لا يمكن أن يخفى أمرها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بين أظهرهم، فثبت أن الخبر حجة، وأنه مسند" (3).
__________
(1) "المغني" 3/373.
(2) "الفتح" 3/373.
(3) "المنتقى" 2/87.
وقد حكى الحافظ رواية الطحاوي عن عياض، وقاله فيه: "ولا يخرج غيره" أي: غير الشعير والزبيب والأقط والتمر" ا. هـ.
وفي حديث أبي سعيد: "فقال له رجل من القوم: أو مُدّين من قمح؟ فقال: لا، تلك قيمة معاوية مطوية لا أقبلها، ولا أعمل بها".
قال الشيخ أبو بكر الجزائري: "الواجب أن تخرج زكاة الفطر من أنواع الطعام، ولا يعدل عنه إلى النقود إلا لضرورة إذ لم يثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرج بدلها نقودًا، بل لم ينقل حتى عن الصحابة إخراجها نقودًا" (1) ا. هـ.
وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرني بحفظ زكاة رمضان، فاتاني آت فجعل يحثوا من الطعام فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ..." الحديث.
وفي رواية أبي المتوكل عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنه كان على تمر الصدقة"، ولابن الضريس: "فإذا التمر قد أخذ منه ملء الكف".
(7) وفي حديث أنس المشهور: "ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابن لبون فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين، إن استيسرتا له، أو عشرين درهمًا".
وقال ابن تيمية الجد في "المنتقى": "والجُبرانات المقدرة في حديث أبي بكر تدل على أن القيمة لا تشرع وإلا كانت تلك الجبرانات عبثًا" ا. هـ.
وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": قوله "والجبرانات" بضم الجيم جمع جبران، وهو ما يُجبر به الشيء، وذلك نحو قوله في حديث أبي بكر السابق "ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا" فإن ذلك ونحوه يدل على أن الزكاة واجبة في العين، ولو كانت القيمة هي الواجبة لكان ذكر ذلك عبثًا؛ لأنها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فتقدير الجبران بمقدار معلوم لا يناسب تعلق الوجوب بالقيمة" ا. هـ.
_________
(1) "منهاج المسلم" 259.
وقال الإمام ابن قدامة في "المغني": "ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض الصدقة على هذا الوجه، وأمر بها أن تؤدى، ففي كتاب أبي بكر الذي كتبه في الصدقات أنه قال: "هذه الصدقة التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر بها أن تؤدى"، وكان فيه: "في خمس عشرين من الإبل بنت مخاض فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر"، وهذا يدل على أنه أراد عينها لتسميته إياها، وقوله: فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر"، ولو أراد المالية أو القيمة لم يجز؛ لأن خمسًا وعشرين لا تخلو عن مالية بنت مخاض وكذلك قوله "فابن لبون ذكر"، فإنه لو أراد المالية للزمه مالية بنت مخاض دون مالية ابن لبون" (1) ا. هـ.
( والقول بالقيمة فيه مخالفة للأصول من جهتين:
الجهة الأولى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكر تلك الأصناف لم يذكر معها القيمة، ولو كانت جائزة لذكرها مع ما ذكر، كما ذكر العوض في زكاة الإبل وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أْشفق وأرحم بالمساكين من كل إنسان (2).
الجهة الثانية: وهي القاعدة العامة أنه لاينتقل إلى البدل إلا عند فقد المبدل عنه، وأن الفرع إذا كان يعود على الأصل بالبطلان هو باطل -كما رد ابن دقيق العيد على الحنابلة قولهم: إن الأشنان يجزيء عن التراب في الولوغ- أي: لأنه ليس من جنسه فيسقط العمل به.
وكذلك لو أن كل الناس أخذوا بإخراج القيمة لتعطل العمل بالأجناس المنصوصة، فكأن الفرع الذي هو القيمة سيعود على الأصل الذي هو الطعام بالإبطال فيبطل.
ومثل ما يقوله بعض الناس اليوم في الهدي بمنى مثلاً بمثل ففي القول بالقيمة جزء الناس على ما هو أعظم، وهو القول بالقيمة في الهدي، ولم يقل به أحد من العلماء، علمًا بان الأحناف أنفسهم لا يجيزون القيمة في الهدي؛ لأن الهدي فيه جانب تعبد وهو النسك.
_________
(1) "المغني" 3/66.
(2) إذ السكوت في مقام البيان يفيد الحصر، وإلى هذه القاعدة المقررة يشير ابن حزم في كثير من استدلاته بقوله تعالى: (وما كان ربك نسيا) وذلك لأنه إذا كان الله لا ينسى- وتنزه ربنا عن النسيان وعن كل نقص- فسكوته سبحانه أو سكوت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المبلغ عنه في معرض البيان لشيء من أفعال الكلفين عن شيء آخر يشبهه أو يجانسه، لا يكون نسيانا أو ذهولاً -تعالى الله عن ذلك- ولكنه يفيد قصر الحكم عن ذلك الشئ المبين حكمه، ويكون ما عداه وهو المسكوت عنه مخالفًا له في الحكم، فإن كان المنصوص عليه بالبيان فمأذونًا فيه كان المسكوت عنه ممنوعًا، وان كان العكس فالعكس، وهو معنى قولهم: السكوت في معرض البيان يفيد الحصر، وهي قاعدة عظيمة بنى عليها العلماء كثيرًا من الأحكام.
(9) ويمكن أن يقال لهم أيضاً: إن زكاة الفطر فيها جانب تعبد طهرة الصائم وطعمة للمساكين، كما أن عملية شرائها ومكيلها وتقديمها فيه إشعار بهذه العبادة، أما تقديمها نقدم فلا يكون فيه فرق عن أي صدقة. من الصدقات من حيث الإحساس بالواجب والشعور بالإطعام، فإخراج القيمة يخرج الفطرة "زكاة الفطر" من كونها شعيرة ظاهرة إلى كونها صدقة خفية، فإن إخراجها صاعًا من طعام يجعلها ظاهرة بين المسلمين معلومة للصغير والكبير يشاهدون كيلها وتوزيعها ويتبادلونها بينهم بخلاف ما لو كانت دراهم يخرجها الإنسان خفية بينه وبين الآخذ.
قال ابن حجر في "الفتح" (4/437) : "وكان الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد لمُّا كانت متساوية في مقدار ما يخرج منها مع ما يخالفها في القيمة دل على أن المراد إخراج هذا المقدار من أي جنس كان.
تنبيه:
* قال شيخ الإسلام: لا ينبغي أن يعطي الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج من المؤمنين كالفقراء أو الغارمين أو كمن يعاود المؤمنين فمن لم يصلَّ من أهل الحاجات لا يعطي شيئًا حتى يتوب ويلتزم آداء الصلاة.
المصدر : نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان للدكتور : سيد بن حسين العفاني ( 2/344
من أجاز إخراج القيمة في الزكاة:
قال ابن قدامة -رحمه لله- وقال الثوري وأبو حنيفة: يجوز. وقد روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن وقد روى عن أحمد مثل قولهم فيما عدا الفترة اهـ (2). قال النووي وهو الظاهر من مذهب البخاري في صحيحه (3) وقال ابن رشيد: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكنه قاده إلى ذلك الدليل (4).
وقد روى سعيد بن منصور في سننه عن عطاء قال: كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم (5).
وروى ابن أبي شيبة عن عون قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقرأ إلى عدي بالبصرة "يؤخذ من أهل الديوان من أعطياتهم من كل إنسان نصف درهم (6).
وعن الحسن قال: لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر (7).
وعن أبي إسحاق قال: أدركتهم وهم يؤدو في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام (.
__________
(1) هذا البحث بأكمله من رسالة "هل تجزيء القيمة في الزكاة؟" لحبيبنا وشيخنا محمد إسماعيل -حفظه الله-.
(2) المغني (3/65).
(3) المجموع (5/429).
(4) فتح الباري (3/212).
(5) المغني (3/65).
(6) (7) ( مصنف ابن أبي شيبه (4/37-38).
وعن عطاء أنه كان يعطي في صدقة الفطر ورقا (دراهم فضيه) (1).
* قال ا-لنووي -في المجموع (6/112) : "قال إسحاق وأ-بو ثور: لا تجزيء إلا عند الضرورة".
المانعون وأدلتهم
من هم المانعون؟.
قال الخرقي -رحمه لله-: ومن أعطى القيمة لم تجزئه (2).
قال ابن قدامه -رحمه لله- قال أبو داد: قيل لأحمد -وأنا أسمع-: أعطي دراهم -يعني في صدقة الفطر- قال: أَخاف ألا يجزئه؛ خلاف سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال أبو طالب -رضي الله عنهما- قال لي أحمد: لا يُعطي قيمته.
قيل له: قوم يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ بالقيمة قال: يدعون قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقولون قال فلان.
قال ابن عمر: فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال الله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وقال: قوم يردون السنن يقولون. قال فلان وقال فلان وظاهر مذهبه أنه لا يجزئه إخراج القيمة في شيء من الذكوات، وبه قال مالك والشافعي (3).
أدلة المانعين وهم جمهور أهل العلم
(1) زكاة الفطر قربة وعبادة مفروضة من جنس متعين فلا يجزيء إخراجها من غير الجنس المعين، كما لا يجزي إخراجها في غير الوقت المعين.
قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني -رحمه لله-: "الشائع المعتمد في الدليل لأصحابنا: أن الزكاة قربة لله تعالى، وكل ما كان كذلك فسبيله أن يتبع فيه أمر الله تعالى، ولو قال إنسان لوكيله: اشتر ثوبًا، وعلم الوكيل أن غرضه التجارة، وجد سلعة هي أنفع لموكله، لم يكن له مخالفته وإن رآه أنفع، فما يجب لله تعالى بأمره أولى بالاتباع.
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (4/37-38).
(2) المغني لابن قدامه (3/65).
(3) المغني لابن قدامه (3/65).
كما لا يجوز في الصلاة إقامة السجود على الخد والذقن مقام السجود على الجبهة والأنف والتعليل فيه بمعنى الخضوع؛ لأن ذلك مخالفة للنص وخروج على معنى التعبد، كذلك لا يجوز في الزكاة إخراج قيمة الشاة أو البعير أو الحب أو الثمر المنصوص على وجوبه؛ لأن ذلك خروج على النص وعلى معنى التعبد، والزكاة أخت الصلاة" (1) اهـ.
وبيان ذلك أن الله سبحانه أمر بإيتاء الزكاة في كتابه أمراً مجملاً بمثل قوله تعالى: (وآتوا الزكاة) وجاءت السنة ففصلت ما أجمله القرآن وبينت المقادير المطلوبة بمثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "في كل أربعين شاة شاة" وقوله: "في كل خمسة من الإبل شاة" إلخ، فصار كأن الله تعالى قال: وآتوا الزكاة من كل أربعين شاة شاة فتكون الزكاة حقًا للفقير بهذا النص، فلا يجوز الاشتغال بالتعليل لإبطال حقه من العين.
(2) إخراج القيمة خلاف ما أمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفرضه، وقد روى أبو داود وابن ماجة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر" (2). وهو نص يجب الوقوف عنده، فلا يجوز تجاوزه إلى أخد القيمة لأن في هذه الحال سيأخذ من الحب شيئًا غير الحب، ومن الغنم شيئًا غير الشاة ... إلخ، وهو خلاف ما قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله تعالى (3) -:"ولنا قول ابن عمر: فرض رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر صاعًا من تمر، وصاعًا من شعير، فإذا عدل عن ذلك فقد ترك للفروض، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "في أربعين شاة شاةٌ ، وفي مائتي درهم خمسة دراهم وهو وارد بيانًا لمجمل قوله تعالى: وآتوا الزكاة فتكون الشاة المذكورة هي الزكاة المأمور بها، والأمر يقتضي الوجوب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض الصدقة على هذا الوجه، وأمر بها أن تؤدى، ففي كتاب أبي بكر الذي كتبه في الصدقات أنه قال: "هذه الصدقة التي فرضها رسول الله ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر بها أن تؤدى" ا. هـ.
__________
(1) المغني (-5/430).
(2) صححه الحاكم على شرطهما إن صح سماع عطاء عن معاذ، ولم يسمع منه لانه ولد بعد موته أو في سنة موته أو بعد موته بسنة، وقال البزار: "لا نعلم أن عطاء سمع من معاذ".
انظر "فيض القدير" للمناوي (3/433) ، وكذا ضعيف الجامع الصغير رقم (2835).
قال المناوي -رحمه لله-: (والمراد أن الزكاة من جنس المأخوذ منه، هذا هو الأصل، وقد يعدل عنه لموجب) اهـ من "فيض القدير" (3/433).
(3) المغني 3/65- 66.
وفي رواية: "إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين التي أمر الله بها ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها".. الحديث قال الحافظ: "على وجهها" أي: "على الكيفية المبينة في هذا الحديث" ا. هـ.
أما حديث معاذ -رضي الله عنه- وفيه: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم" ... الحديث. فقد قال ابن قدامة -رحمه لله- "ولأن مخرج القيمة قد عدل عن المنصوص فلم يجزئه كما لو أخرج الرديء مكان الجيد" (1). ا. هـ.
وقال الشوكاني -رحمه لله-: وقد استدل بهذا الحديث من قال إنها تجب الزكاة من العين، لا يعدل عنها إلى القيمة إلا عند عدمها، وعدم الجنس، وقال أيضاً: "فالحق أن الزكاة واجبة من العين لا يعدل عنها إلى القيمة إلا لعذر" (2).
وقال الشوكاني أيضاً في السيل الجرار: "أقول: الثابت في أيام النبوة أن الزكاة كانت تؤخذ من عين المال الذي تجب فيه، وذلك معلوم لا شك فيه، وفي أقواله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يرشد إلى ذلك، ويدل عليه كقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "خذ الحب من الحب" ا. هـ.
(3) ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عينها من أجناس مختلفة وأقيامها مختلفة غالبا، فلو كانت القيمة معتبرة لكان الواجب صاعًا من جنس وما يقابل قيمته من الأجناس الأخرى، وقال النووي -رحمه لله-: "ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشياء قيمها مختلفة، وأوجب في كل نوع منها صاعًا فدل على أن المعتبر صاع ولا نظر إلى قيمته" (3) ا. هـ.
(4) ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي وهو "أن التكليف والابتداء لإخراج الزكاة ليس بنقص الأموال فقط -كما فهم أبو حنيفة- فإن هذا ذهول عن التوفية لحق التكلف في تعيين الناقص، وهو يوازي التكليف في قدر ناقص، فإن المالك يريد أن يبقي ملكه بحاله، ويخرج من غيره عنه، فإذا مالت نفسه إلى ذلك وعلقت به كان التكليف قطع تلك العلاقة التي هي -بين القلب وبين ذلك الجزء من المال، فوجب إخراج ذلك الجزء بعينه" (4) ا. هـ.
__________
(1) المغني 3/66.
(2) نيل الأوطار 4/171.
(3) "شرح النووي" 7/60.
(2) "أحكام القرآن" 2/945.
(5) أن الزكاة وجبت لدفع حاجة الفقير وشكرًا لله على نعمة المال، والحاجات متنوعة فينبغي أن يتنوع الواجب ليصل إلى الفقير من كل نوع ما تدفع به حاجته ويحصل شكر النعمة بالمواساة من جنس ما أنعم الله عليه به" (1).
(6) قال الشيخ محمد بن صالح آل عثيمين: "ولأن إخراج القيمة مخالف لعمل الصحابة -رضي الله عنهم- حيث كانوا يخرجونها صاعًا من طعام وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "عليكلم بستتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" ا. هـ.
وقد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كنا نعطيها في زمان النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب". قال الحافظ: "كنا نعطيها" أي: زكاة الفطر (في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) هذا حكمه: الرفع؛ لإضافته إلى زمنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ففيه إشعار باطلاعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، وتقريره له ولا سيما في هذه الصورة التي كانت توضع عنده، وتجمع بأمره، وهو الآمر بقبضها وتفرقتها (2) ا. هـ.
وقال الباجي في "المنتقى" عند هذا الحديث: قوله: "كنا نخرج زكاة الفطر" يلحق عند أكثر أهل العلم بالمسند، وهو مذهب مالك والشافعي؛ لأن الصحابي إذا أخبر بفعل من الشرع، وأضاف ذلك إلى زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالظاهر أْنه أضافه إلى زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن هذا الحديث رواه داود بن قيس عن عياض ابن عبد الله فقال: "وكنا نخرج إذ كان فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر"، فذكره فصرح برفعه، فإذا كان الأمر المضاف مما يظهر ويتبين ولا يخفى مثله على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ولم ينكره، وأقر عليه فإنه حجة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقر على المنكر، وإخراج زكاة الفطر يكثر المخرجون لها والآخذون ويتكرر ذلك حتى لا يمكن أن يخفى أمرها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بين أظهرهم، فثبت أن الخبر حجة، وأنه مسند" (3).
__________
(1) "المغني" 3/373.
(2) "الفتح" 3/373.
(3) "المنتقى" 2/87.
وقد حكى الحافظ رواية الطحاوي عن عياض، وقاله فيه: "ولا يخرج غيره" أي: غير الشعير والزبيب والأقط والتمر" ا. هـ.
وفي حديث أبي سعيد: "فقال له رجل من القوم: أو مُدّين من قمح؟ فقال: لا، تلك قيمة معاوية مطوية لا أقبلها، ولا أعمل بها".
قال الشيخ أبو بكر الجزائري: "الواجب أن تخرج زكاة الفطر من أنواع الطعام، ولا يعدل عنه إلى النقود إلا لضرورة إذ لم يثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرج بدلها نقودًا، بل لم ينقل حتى عن الصحابة إخراجها نقودًا" (1) ا. هـ.
وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرني بحفظ زكاة رمضان، فاتاني آت فجعل يحثوا من الطعام فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ..." الحديث.
وفي رواية أبي المتوكل عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنه كان على تمر الصدقة"، ولابن الضريس: "فإذا التمر قد أخذ منه ملء الكف".
(7) وفي حديث أنس المشهور: "ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابن لبون فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين، إن استيسرتا له، أو عشرين درهمًا".
وقال ابن تيمية الجد في "المنتقى": "والجُبرانات المقدرة في حديث أبي بكر تدل على أن القيمة لا تشرع وإلا كانت تلك الجبرانات عبثًا" ا. هـ.
وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": قوله "والجبرانات" بضم الجيم جمع جبران، وهو ما يُجبر به الشيء، وذلك نحو قوله في حديث أبي بكر السابق "ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا" فإن ذلك ونحوه يدل على أن الزكاة واجبة في العين، ولو كانت القيمة هي الواجبة لكان ذكر ذلك عبثًا؛ لأنها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فتقدير الجبران بمقدار معلوم لا يناسب تعلق الوجوب بالقيمة" ا. هـ.
_________
(1) "منهاج المسلم" 259.
وقال الإمام ابن قدامة في "المغني": "ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض الصدقة على هذا الوجه، وأمر بها أن تؤدى، ففي كتاب أبي بكر الذي كتبه في الصدقات أنه قال: "هذه الصدقة التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر بها أن تؤدى"، وكان فيه: "في خمس عشرين من الإبل بنت مخاض فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر"، وهذا يدل على أنه أراد عينها لتسميته إياها، وقوله: فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر"، ولو أراد المالية أو القيمة لم يجز؛ لأن خمسًا وعشرين لا تخلو عن مالية بنت مخاض وكذلك قوله "فابن لبون ذكر"، فإنه لو أراد المالية للزمه مالية بنت مخاض دون مالية ابن لبون" (1) ا. هـ.
( والقول بالقيمة فيه مخالفة للأصول من جهتين:
الجهة الأولى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكر تلك الأصناف لم يذكر معها القيمة، ولو كانت جائزة لذكرها مع ما ذكر، كما ذكر العوض في زكاة الإبل وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أْشفق وأرحم بالمساكين من كل إنسان (2).
الجهة الثانية: وهي القاعدة العامة أنه لاينتقل إلى البدل إلا عند فقد المبدل عنه، وأن الفرع إذا كان يعود على الأصل بالبطلان هو باطل -كما رد ابن دقيق العيد على الحنابلة قولهم: إن الأشنان يجزيء عن التراب في الولوغ- أي: لأنه ليس من جنسه فيسقط العمل به.
وكذلك لو أن كل الناس أخذوا بإخراج القيمة لتعطل العمل بالأجناس المنصوصة، فكأن الفرع الذي هو القيمة سيعود على الأصل الذي هو الطعام بالإبطال فيبطل.
ومثل ما يقوله بعض الناس اليوم في الهدي بمنى مثلاً بمثل ففي القول بالقيمة جزء الناس على ما هو أعظم، وهو القول بالقيمة في الهدي، ولم يقل به أحد من العلماء، علمًا بان الأحناف أنفسهم لا يجيزون القيمة في الهدي؛ لأن الهدي فيه جانب تعبد وهو النسك.
_________
(1) "المغني" 3/66.
(2) إذ السكوت في مقام البيان يفيد الحصر، وإلى هذه القاعدة المقررة يشير ابن حزم في كثير من استدلاته بقوله تعالى: (وما كان ربك نسيا) وذلك لأنه إذا كان الله لا ينسى- وتنزه ربنا عن النسيان وعن كل نقص- فسكوته سبحانه أو سكوت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المبلغ عنه في معرض البيان لشيء من أفعال الكلفين عن شيء آخر يشبهه أو يجانسه، لا يكون نسيانا أو ذهولاً -تعالى الله عن ذلك- ولكنه يفيد قصر الحكم عن ذلك الشئ المبين حكمه، ويكون ما عداه وهو المسكوت عنه مخالفًا له في الحكم، فإن كان المنصوص عليه بالبيان فمأذونًا فيه كان المسكوت عنه ممنوعًا، وان كان العكس فالعكس، وهو معنى قولهم: السكوت في معرض البيان يفيد الحصر، وهي قاعدة عظيمة بنى عليها العلماء كثيرًا من الأحكام.
(9) ويمكن أن يقال لهم أيضاً: إن زكاة الفطر فيها جانب تعبد طهرة الصائم وطعمة للمساكين، كما أن عملية شرائها ومكيلها وتقديمها فيه إشعار بهذه العبادة، أما تقديمها نقدم فلا يكون فيه فرق عن أي صدقة. من الصدقات من حيث الإحساس بالواجب والشعور بالإطعام، فإخراج القيمة يخرج الفطرة "زكاة الفطر" من كونها شعيرة ظاهرة إلى كونها صدقة خفية، فإن إخراجها صاعًا من طعام يجعلها ظاهرة بين المسلمين معلومة للصغير والكبير يشاهدون كيلها وتوزيعها ويتبادلونها بينهم بخلاف ما لو كانت دراهم يخرجها الإنسان خفية بينه وبين الآخذ.
قال ابن حجر في "الفتح" (4/437) : "وكان الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد لمُّا كانت متساوية في مقدار ما يخرج منها مع ما يخالفها في القيمة دل على أن المراد إخراج هذا المقدار من أي جنس كان.
تنبيه:
* قال شيخ الإسلام: لا ينبغي أن يعطي الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج من المؤمنين كالفقراء أو الغارمين أو كمن يعاود المؤمنين فمن لم يصلَّ من أهل الحاجات لا يعطي شيئًا حتى يتوب ويلتزم آداء الصلاة.
المصدر : نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان للدكتور : سيد بن حسين العفاني ( 2/344